محمد عبد الخالق يكتب “هل يبدأ الحب من الأذنين؟!”

قالوا القلب وقالوا العين، وتغنوا متسائلين: مين السبب في الحب … القلب ولا العين؟

حديثي في حقيقة الأمر لايتعلق بـ”الحب” فقط، وإن كنت اختصصته في العنوان لمعرفتي قيمته ومدى تأثير هذين الحرفين السحريين في القارئ، لأن الأمر حقا يمتد إلى التفاهم والفهم والاقتناع والتعلم واكتساب الخبرات الحياتية بما فيها الحب.

بعيدا عن الأسطورة التي  ربطت بين القلب والحب في تراثنا الرومانسي … الأذن أول وسائل التعلم من أول يوم لنا على هذه الدنيا، وحتى آخر لحظاتنا التي نسمع فيها تلقين من يحيطون بنا.

الاستماع يختلف عن السمع، ميزنا به الله تعالى عن باقي مخلوقاته، فجميع الكائنات الحية لها أذنين تسمع بهما، طوال سيرك تسمع أصواتا عديدة، كلاكسات السيارات، شجار في الطريق، دقات من ورشة السيارات …. وآلاف الأصوات الأخرى تمر عليك دون انتباه أو تركيز أو تأمل، فلا تعدو كونها أصواتا، هذا هو السمع، لكن أن تعي ما تسمعه وتميزه وتفهمه وتترجمه وتبني عليه مواقف وآراء وقناعات، فهذا هو الاستماع.

وهنا قاطعني زياد، ابني الذي كان يقف خلفي، يقرأ على شاشة الكمبيوتر ما أكتبه، دون أن أشعر به، ودار بيننا هذا الحوار:

 

كيف أستمع؟

 

قلت: استمع … انصت لمحدثك باهتمام، فتكسب ثقته وحبه واحترامه، وتعي جيدا ما يقوله، تعامل مع حديثه –طالما قبلت أن تقوم بهذا الدور- معاملتك مع قطعة موسيقية كلاسيكية، تحتاج منك الهدوء والتركيز، فكم من صداقات وعلاقات إنسانية راقية بدأت بالإنصات الجيد بين طرفين.

فتستفيد من التجربة، وتفيده بردك ورأيك إذا كان ينتظر من رأيا، وتريحه نفسيا وتقربه منك إذا كان يريد فقط من يسمعه ويحمل عنه همومه، إنه ما يعرف يا سادة بـ”فن الاستماع”.

قال: إلى ماذا أستمع؟

 

فقلت: انصت إلى كل ما تتقبله أذنك، فحفيف الأشجار في الخريف، ورفة أجنحة طائر صغير، وطقطقة الخشب القديم تحت كعب حذائك، ورنة جرس دراجة طفل صغير؛ ليس إلا لغات مختلفة يحدثنا بها الكون، ارهف لها السمع، اجعلها أصواتها تذهب إلى قلبك أولا، فهو الوحيد القادر على ترجمتها.

انصت إلى صديق في شدة يحتاج لمن يسمعه وينصحه ويشاركه أفكاره، انصت لصديق في فرح يبحث عمن يشاركه بهجته، استمع إليه باهتمام وحب وتقدير مهما كان سره صغيرا في وجهة نظرك، فهو كبير بحجم الدنيا بالنسبة له، وتقديرك له يفتح الطريق أمامك واسعة وممهدة لتسكن قلبه.

انصت إلى شيخ عجوز، وارتشف من حروفه المتكسرة وكلماته التي بهتت عليها ألوان الأيام حكمة وخبرة السنين، فقد تهبك كلمة من كلماته خبرة تحتاج سنين طويلة لاكتسابها.

 

قال: لمن أستمع؟

 

فقلت: استمع للجميع، وأولهم نفسك، ارهف السمع لما تحدثك به نفسك، ولما يرسله قلبك وعقلك من إشارة، انتبه جيدا لذلك الحديث الخافت الدائر بداخلك، فجميعنا يدور بداخله حديث وحوار، لكن لا ينتبه له جميعنا، استمع جيدا لروحك حتى تظل تتواصل معك ولا تنصرف عنك.

استمع للجميع، لا تتكبر على أحد أو تظن نفسك أفضل من أحد، أو تعرف اكثر من أحد، فقد تتكسب خبرة من بائع جائل لم ينل قسطا من التعليم، وقد تكتسب معلومة من طفل سمعها في مدرستة أو من فيلم كارتون.

استمع لكل المخلوقات، فمن صوت أقدام الإبل في الصحراء عرفنا علم العروض (أوزان الشعر)، وعلى دقات النحاس نظم عمال الأعمال اليدوية أشعارا وأغاني حكوا لنا بها متاعبهم وأحلامهم، استمع إلى الموسيقى والغناء بجميع اللغات ومن كل الثقافات والمستويات، استمع إلى كل ما تحسه أذنك، فينفتح أمامك بابا تطلع منه على اللانهائية

قال: ماذا أفعل بما أسمعه؟

 

فقلت: اجعل للحديث بداخلك مساران، يمر من خلالهما كل ما تسمعه، المسار الأول يمر إلى عقلك والآخر إلى قلبك … إياك أن تسد أحدهما أو تعطل عمله، فهناك أمور يجب أن يكون طريقها للعقل، وأمور يكون طريقها للقلب، وبينهما أمور متشابهات دعها تمر عبر الاثنين.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.