«معتقلة بتهمة أم» كتبه أميمة دويدار

المرأة هى ذلك الكائن الذى يستقبل ما تلقيه عليه الدنيا من مسؤوليات أو هموم أو ألم بشكل مختلف عن الرجل، ونتيجة ما تتعرض له من تغيرات فسيولوجية أدعى أن يجعل منها كائنًا شديد الخصوصية، فهى ربما تبدو عاجزة عن الإفضاء بما فى نفسها، لأنها لا تعرف كيف تفضى به ولمن؟

والمرأة الكاتبة شديدة الخصوصية، فقلبها يلاقى فوق ما تلاقيه القلوب، وتحمل فوق ما تحمل نظيراتها من النساء،
وأشد ما تعانيه هو فقدها القدرة، ولو لوقت مؤقت على الكتابة، نتيجة تحملها مهام لا غنى عنها كالأمومة،
فهى غير ناقصة ولا ساخطة بقضاء الله وقدره، ولا باكية حظها لفقدها نعمةً ما، وحدوث خلل ما كان عائقًا لها وحائلًا بينها وبين الورقة والقلم، اللذين يمثلان لها الماء والهواء، فلا غنى عنهما أبدًا، ولا سبيل لتعويضهما بأى شىء آخر.
فالمرأة الكاتبة لا يسعدها ما يسعد غيرها من النساء الأخريات كالتسوق والتبضع بما تشتهى أنفسهن، ويجعلهن فى منتهى اللذة والسعادة.
فكل هذا لا قيمة له مقابل خمس دقائق تخط فيها أناملها ما يجول بخاطرها ويعبر عما تكنه أغوارها، وهذا كل ما تصبو إليه وتتمناه.
وكم من كاتبة وأدت موهبتها ولم تتخطَّ مكتبة المنزل، وانغمست فى مهام الأولاد والبيت ومسؤولياتها تجاه الأسرة، ولم تجد داعمًا ولا سندًا لها، إلى أن تلقى وجه كريم.
وهناك من نجحن فى خوض هذا المجال وبسيوف بتارة لكل عائق أو مقلل للهمم، ونجحن وبذلن الجهد الوفير لتحقيق مكانة وشأن عظيم فى هذا المجال.
فانتقال المرأة من كونها بنتًا مدللة فى بيت أبيها الكل يدفعها دفعًا للنجاح والتميز، أو من كونها حرة فى اتخاذ قراراتها وأولوياتها تفعل ما يحلو لها وتملك وقتها وتوزعه كيفما تشاء، إلى زوجة وأم تحمل على عاتقها من المسؤولية وثقال المهام ما يضغط عليها ويصعب التكيف معه، ويشتت ذهنها ويبعثرها ويحولها إلى أشلاء يصعب تجميعها.
ويأتى السؤال كيف لها أن تحقق التوازن وتلك المعادلة الصعبة واستمرارها كزوجة وأم، وكذلك كاتبة عشقها الكتابة؟
هل تعلم أن حياتها ستتحول إلى معتقل رغم أنفها أو إلى غرفة مغلقة تتخبط فى أدوات رعاية طفلها، وتقضى يومها فى تغيير حفاض طفلها وإعداد الرضعة وسرير لهدهدة الطفل ليل نهار، محرومة من النوم إلا سويعات قليلة، وتسرق بعض الوقت كى تتمكن من إعداد الطعام للزوج وتعود مسرعة على صرخات طفلها، ولسان حالها يشكو مرارة ابتعادها عن الكتابة وتحقيق طموحها.
وهى فقط من تشعر بكل هذه المرارة، فهى فى السراء والضراء أنيسة وحدتها.
لقد دفعنى لكتابة هذا المقال كتاب لكاتبة تركية متميزة تدعى إليف شفاق، اسم الكتاب متميز جدا “حليب أسود” عبرت فيه الكاتبة عما عانت منه تلك المرحلة من حياتها، والاكتئاب الذى سيطر عليها، وعجزها عن توقف قلمها عن إنجاب الكلمات بعد أن أنجبت طفلها، وعبرت ببراعة عن تجربة الاكتئاب التى عاشتها والصراع الداخلي الذى عانت منه، وكيف مزقها إلى كيانات متعددة وحرمها الصفاء والسلام الداخلي، وجعلها كما ذكرت إليف “فى هوس دائم بشأن الدرب الذى أهملت اختياره”.
وذكرت نماذج لكتاب تمتعوا برعاية وتفرغ زوجاتهم لهم كى يحققوا طموحهم فى الكتابة، فتساءلت: “هل زوجة تولستوي الكاتب إذا كانت كاتبة هل سيعينها كما أعانته؟ هل كان ينسخ مسودات زوجته المرة تلو الأخرى؟
هل كان يأخذ الأطفال للتنزه ويلبى كل احتياجاتهم حتى تتمكن زوجته من الحصول على ساعات أكثر هدوءًا وصفاءً لتنغمر فى الكتابة كيفما تشاء؟”.
وذكرت تجربة أخرى لكاتبة تدعى سيلفيا بلاث التى كانت متزوجة من شاعر يدعى تيدهيوز، وكيف أن حياتهما تفيض بالعاطفة رغم مرور السنين، ولهذا أقدمت على تجربة الإنجاب وكانت مقتنعة تمامًا أن الأمومة ستضيف لها الكثير، وكانت محقة فأعظم أعمالها كان آريل قد كتبته بعد أن صارت أمًّا.
“ولكنها انغمست فى مسؤولياتها الثقيلة وتنحت دون رغبة منها عن كتابة الشعر، وهى تلبى واجبات الأمومة، فى حين أن زوجها استمر ككاتب ودافعا شهرته إلى أقصى مدى.
وتخلى عنها بعد أن كانت تظن أنها المرأة الخارقة، وأدركت أنها تضغط على نفسها أكثر مما ينبغى، ولم تجد بُدا من دفع الأموال التى حصلت عليها إلى مديرة منزل تحمل عنها بعض العناء”.
وذكرت إليف شفاق أنه يندر أن تجد أحدًا قد كتب عن مثلث برمودا، الزوجة المثالية، مديرة المنزل المخلصة، والأم المنكرة لذاتها، وكيف أن مبدعات لا عدد لهن قد اختفين فى هذه الدوامة البرمودية.
وأردفت الكاتبة وألقت الضوء على دور الزوج فى مصاحبة زوجته، وأنه مصدر أساسى لجلب العزيمة والإرادة للزوجة الكاتبة، كى تتوازن وتستعيد عافيتها لتمسك بالقلم.
وذكرت إليف أنها اتفقت مع زوجها أن يشاركها فى الحفاظ على الأسرة فى جوها الهادئ المريح بمساعدة مربية، لتسمح لها باقتناص وقت للكتابة، وهى مطمئنة على طفلها.
وذكرت إليف أن كل حالة منفصلة عن الأخرى، وأنه لا توجد هناك معادلة واحدة تنظم الأمومة والكتابة وتناسب الجميع.
علينا أن ندرك أن الكتابة لم تكن سهلة أبدًا وتحتاج إلى هدر الكثير من الطاقة، والقدرة على الموازنة تكاد تكون مستحيلة بين أولويات متعارضة.
علينا أن نعترف بأن التناغم والانسجام بين حب الكتابة والأمومة يتطلب مشاركة وتعاونًا وسندًا من المحيطين بها وبالأخص الزوج.

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.