مقهى فوق قمة الجبل في طهران، لا بُدَّ أن تخوض بحر الثلوج في ممرات جبلية ضيقة وووعرة حتى تصل إليه، أهل البلد يرتدون من الأحذية ما يليق بالمهمة، كانت النظرة إلى ما يرتدونه مرتبطة بخطواتهم الثابتة فوق الثلج، بينما أحاول أن أستند إلى الجدار الجبلي بطول الطريق، وعندما استقر بي المقام في المقهى الدافئ مع القهوة المغلية كانت هناك فرقة موسيقية تعزف أغاني إيرانية وسط بهجة ما تسود المكان كله، وعندما عرف صاحب المقهى أنني مصري أطلع قائد الفرقة على الخبر، فما كان من قائد الفرقة إلا أن حياني بالإنجليزية، ثم أشار إلى العازفين فبدءوا في تقديم: “حبييي يا نور العين” بلهجة مصرية مهشمة لكنها لم تخلُ من صدق اختلط بابتسامات العازفين وهم ينظرون لي طول الوقت للتأكيد على أنني أشعر بالونس في هذا المكان البعيد عن منزلي في القاهرة.
أحتفظ معي عادة عند السفر بهدايا رمزية من عينة أوراق البردي المنقوش عليها رسوم فرعونية للملوك والملكات والفـــلاح الفصيح والآلهة الشهيرة، تباع الواحدة بأقل من خمس جنيهات في أي محل من المحلات التي بات العنكبوت يعشش عليها؛ إذ يقع مكانها في مواجهة المتحف المصري في التحرير، هذه المحلات التي انهارت فباتت تبيع هذا النوع من الهدايا بخمس الثمن، لكن أوراق البردي لا زالت رغم تردي حالة بائعيها تحظى بالبريق نفسه في أعين كل من يقطن خارج الحدود، وزعت بعض منها على قائد الفرقة الموسيقية والعازفين، فأصر القائد على أن يدعوني لتناول الطعام في منزله.
كان في رفقتي طوال الرحلة سائق تاكسي إيراني اسمه (علي) يجيد قدرًا من العربية بسبب فترة ما من حياته قضاها يعمل في الكويت، كان (علي) أكثر من سائق، في دار السينما كنت أتابع فيلمًا أثار ضجة وقتها، وكان يجلس إلى جواري يترجم لي قدر استطاعته، كذلك عندما كانت هناك فرصة لإجراء حوار مع مسئولة حكومية وكانت تشغل منصبًا مهمًّا وقتها تخلف المترجم الرسمي الذي عينته لي وزارة الثقافة؛ لأن المسئولة حددت السابعة صباحًا موعدًا لإجراء الحوار، فكان (علي) هو المترجم الذي أثار دهشة رافسنجاني، وانتهى الحوار بأن عرضت عليه أن يعمل معها كسائق خاص لما لمسته لديه من ذكاء وسرعة بديهة وثقة بالنفس، ابتهج (علي) بالخبر لدرجة أنه قرر أن يحتفل معي بدعوتي للطعام في منزله.
كان الوقت المتبقي لي في ايران قد أوشك على النفاذ، وكان لا بُدَّ من قبول دعوة غذاء واحدة، طلبت من علي أن يهاتف قائد الفرقة ليعتذر له عن الحضور، طالت المكالمة أمامي، وكان واضحًا أن ثمة تفاوض يدور.
في منزل قائد الفرقة كنا نجلس معه أنا وعلي وأبناؤهما، بينما في المطبخ الزوجات يطهين سويًّا، هكذا كان الاتفاق، طلب علي من الموسيقي أن يعزف لنا على الجيتار أغنية لـ (جوجوش)، مطربة من أيام الشاه يعشقونها عشقنا لأم كلثوم، انقطعت أخبارها بعد الثورة، بدأ الموسيقي يعزف ويغني، كانت الجملة معادة مميزة لدرجة أنني حفظتها ولا زلت حتى يومي هذا: “من آماده أم.. بوي بوي”، كانت دموع علي تنسال وهو يغني، فقامت ابنته الصبية التي كان اسمها بالعربية يعني (وجه القمر)، فسحبت أباها من يده وقام معها ليرقصا بطريقة البلد المميزة على العزف، كنت سببًا في تعارف أسرتين في مدينة واحدة أزورها لأول مرة في حياتي، ووجدتني جسرًا خشبيًّا يعبر فوقه قليلون باتجاه سعادة ما، كانت أغنية جوجوش تعيد نفسها على لسان المجتمعين، وكانت ترجمة كلماتها تقول: “يبدو أنني مقبلة على الحب من جديد