حديث الصباح والمساء” بقلم جيهان جمال”

حديث  الصباح  والمساء

بقلم  ..  چيهان  جمال

فى  مشهد  يفيض  بتفاصيل  أنسانية  عظيمة المعنى ..

وغارق  أيضا  فى  تفاصيل  الألم   .
بمسلسل  حديث الصباح  والمساء .
يتلهف  عالى  الأحساس  الفنان  خالد  النبوى
 ”  داوود  ”  باشا  على  رؤية  أحفاده  .
هؤلاء    الأحفاد  الذى  حرم  على  نفسه ، وعلى شيخوخة أيامه  و  لياليه     ..  أن  تتنعم  بالعيش  بين أحضانهم   .. حين  يٓدق  خريف  العُمر  الباب .
أختار بكامل  أرادته ..  أن  يقع  فى شطط المحظور .
يبدء  المشهد  حين  يقرر  ذات  صباح  باكر  جداً  أن  يذهب  لرؤيتهم  .
يٓدق  كالزائر  الغريب  على  أبواب  أغلقت  فى وجهه  جميع  نوافذ  ذكرياتها  المؤسفة   معه  مُنذ  سنوات .
يدخل   بقدميه   التى  أثقل  خطوها  العجز   ، يتكىء  على  عكاز  ماتبقى  له  عند ابنه من رصيد  الأبوة   ..  متألم   بعذاب  البعاد ، والحرمان  من  النٓفس  الدافء ، وصُحبة  الونس  لهؤلاء  بالذات  الذين  يسكنون  هنا .. وهو  بعيد  عنهم  هناك .
يقف  حائرا  فى  وسط  البهو  الكبير .
و يقف ابنه  منقسم  المشاعر كعادته   ..  منتصف  المسافات  .. مندهش  كما  هو  دائما  من   والده  ،  ومن  تلك  الزيارة  المفاجئة . . التى صدمه  بها   .
يستسلم  الأبن  لايعيي  إن  كان فرحا  بزيارة  أبوه    .. أو  انه  خائف  من ردة  فعل  أمه  .
أمه  الهانم  التى  تركها  والده  ..  وراح  يرتمى  فى  أحضان  جاريتها .
متعللا  بأن  تِلْك  الزيجة  كانت  صرخة  أحتجاجه  على  دنياه  .. التى اختطفته باكر جدا من ذاته ، ومن أهله . فأخرجته من عباءة جلده .
لم يجد الأبن  أمامه  غير أن يستسلم  لفعلة  أبيه  على  استحياء  كعادته  معه  فى كُل مراحل  حياتهم  الصادمة  .
ليصير  الأبن  المسكين .. رهين  المحبسين  .. ككل  سنوات  عُمره   التى  كانت  بينهما  .. فتجده  حائر فى  أحيان ..  وجائر  فى غالب الأحوال  على  أبيه  رغما  عنه  فى  توزيع  قسمة  مشاعر القلوب  بالعدل ،    والأنصاف  . . ليعيش عُمره  كله  مشدود حد التمزق  بينهم .
مخذول  الوجدان .. حٓاله  كحال الكثيرين  ممن وضعتهم  الأقدار فى  تِلْك  المِحنة ..
يسأله  الأب  بصوت  ملهوف  بفعل  الحنين  .. مرتعش .. بفعل جفا  الأيام ..
فين الولاد ؟
يجيبه  الأبن   .. الذى  أستمات  فى  أن  يحافظ على  أن  يكون   بار  بوالده .
ويقول .. أن  الأحفاد  جميعهم    فى  رحلة .. ولم  يبقى  بالمنزل  غير  الحفيدة  الصغرى .
ثم  يآتى  بها  لوالده  كٓى  يروى  بها  عطش  الحنين  .
ليركع  الجد  أمامها  على  قدميه  التى  ذهبت  بِه  يوما ما  هناك  عند  مفترق  الطرقات .. وتهوى  به  الأن  على  تِلْك  الأرض  التى  كانت هى  الأصل  والجذور  .. لكنه  نزع  نفسه عنوة  ..  لحظة  أن  تشبثت   بالحلم  الزائف .
ليتحدث  اليها  بصوت  آبكاه  الآنين .. وآضناه الحرمان  من  ملامسة  أنفاسها  البريئة .. فتخرج  الآهة  من  صدره  حارقة  .. مشتاقة .. انه  يتوق  لطفلته  الجميلة  ، فيقبلها  .. ويتقلب  على  جمر  الحرمان  بين  خصلات  شعرها البريء ..  وعلى  خارطة  حنان  وجهها  الملائكى البريء   .. يتوب  من   أنانيته  وهوسه  بذاته .. ويتمرغ  عائدا   بين  ملامح  الأيام     .
فيشم رائحتها  فى لهف موجوع  .. وحُب موجوع .. وانكسار  موجوع  .
ثم  يخرج   .. بعد  أن  أرتوى  بعض الشيء .. ثم  مايلبٓث  أن  يشعر  أنه   مهزوم  من   كُل  الأشياء .
يخرج  مسكين  .. مكتوي  بالحيرة  و الندم . . من  فعل  كان صنيعة  يديه  التى تشتاقهم  فى كُل لحظة  ..  ان تلملمهم فى حُضن أكف شيب الأيام   ..  ولاتجدهم .
يعود   ” داوود باشا ”  و لا  يجد  غير  صنيعة  غرور  صبى ،  وشباب   آيامه  المتعجرفة  .. والخارجة  عن المآلوف  .. والتى صارت  بمرور  السنوات  دوما  تخذله .
يعود  ولم  يبقى منه  غير غربة  مشاعره  المسافرة   ..  وثمة  وجع  يئن  بين  أكف يديه  خاوية  الوفاض .

لم  يبقى منه  غير الفقد ..  هو الآن  يفتقد نعمة  حُضن  البيوت  التى  رُبما لا يشعر بها سوى من أنعم الله عليه بنعمة  دفء المحبة  ،  وجميل  الأحساس .
أو  ربما  قد  يشعر  بها  من  أبتلى  بافتقاد  عزيز .. أو أبتلى  بالحرمان  من  دفء العائلة ..  حتى  لو كانت  الأسباب  وجيهة .

لم يبقى  منه  غير الفقد ..   أنه  الأن  يفتقد  تلْك التفاصيل  التى رُبما لم تستوقف البعض  ممن  وقعوا  فى  المحظور مثله  فى  بدايات  العُمر .. فَانسَلَخوا   فى  لحظة  طيش مجنونة  عن جلدهم  .. فتفوّقت الفرقة .. وتفرق  دمهم  ولحمهم  على طرقات آسى الحنين  لسنوات  ، وسنوات .. بلا جدوى .
أو قد تكون  أستوقفت  بعضهم اللحظة  الفارقة  .. فلملموا   بقاياهم  ..  وتمرغوا  مع فلذات  أكبادهم  فى عناق  طويل  رُبما  يعوضهم  عما  كان   .. كذاك  المشهد  الذى  آوقع  الجميع فى غرامه   ،  وَآغرق كُل  حواسهم   الحية  فى  مشاعر الحنين .

ثم  يستوقفنى داوود  باشا  حين عودته  بهذا  المشهد الآخر .. الذى  يجمع  بينه  وبين  ” نعمة  ” زوجة أخيه   ..

قبل  أن  يتوفى  بلحظات  لينام  نومته  الأخيرة فى  حجرها  كالطفل  الصغير .. لندرك  أن هذا  الرجُل  كالكثيرين  ممن  عاشوا  بيننا  .
عاش  ،  ومات  طفل  كبير .
وفى  عبارات   بليغة  ..  يعبر  عن حال أهل  الدنيا  ، وعن  نفسه .
ويقول  :  كلنا  فى  الدنيا  دى  مسافرين  .
ركاب  قطر ..
كُل  واحد  بتيجى  محطته  بينزل .
وانا عشت  طول  عمرى  مسافر ..
مسافر سفر طويل ..
غريب  فى  وسط  أهلى  وناسى ..
لا  عارف  جاى  ليه !
والا  رايح  فين !
ينتهى  هذا المشهد  لندرك  أن  هذه  الغربة  وَتِلْك  الأسفار إن   لم  تٓكُن بفعل  الظروف .. كما  يؤلم  بَعضُنَا  الغياب  عن دفء  قطعة من دمنا ولحمنا  رُبما بعدت عنا .. أو  بعدنا  عنها  نحن   لأي  سبب من  الأسباب العظيمة  الخارجة عن  الأرادة . . فلا  داعى للشتات .. والأحساس ولو للحظة  بالندم وقت لا ينفع الندم .

ليخرج  الجميع  بالدرس الكبير  الذى  ينبىء  به حديث الأيام  فى  كُل  صباح  و مساء  لنتذكر  .
ونُذكِّر  أنه  حين  تجمع  الدنيا  البشر  بعضهم ببعض  ..  ويلقى  كُل  نصفه  الآخر  .
وحين تضعهم  فى  سلسلة  أختيارات   الحياة  لابد قدر  المستطاع  المحافظة  على  جميل  ماكان بالبدايات .. و تهيئة  النفس   مابين  الحين   والحين  للحفاظ  على  من يستحقون  أن  يصيروا  مع  الأيام  أولى الأولويات  على طاولة القسمة والنصيب  ،  وفى  الحفاظ  على كُل مايضمن لهم  كرم العيش بتِلك الحياة .
لتمضى  الأيام   بحلوها ،  ومرها .. وتصحب معها  السنوات  لتأخذ  الجميع  بكل مافيهم  من  مزايا  وعيوب . .  لبر الأمان .. فالكمال لله  وحده .

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.